وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) سورة النساء

1- تفسير الآيتين من "كتاب الميزان في تفسير القرآن" للسيد الطباطبائي:

قوله تعالى: «و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم» قد تقدم في قصص عيسى (عليه السلام) في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلبا و غير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل و الصلب معا في مقام الرد و النفي لبيان النفي التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما، و لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، و قد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفي القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا، و لا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله «و ما قتلوه» قوله «و ما صلبوه» ليؤدي الكلام حقه من الصراحة، و ينص على أنه (عليه السلام) لم يتوف بأيديهم لا صلبا و لا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح (عليه السلام) مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه، و ليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية و الهجمة و الغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره و قد قتله الجنديون من الروميين، و ليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، و مع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ و قتل مكانه.

و ربما ذكر بعض محققي التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه (عليه السلام) و الحوادث المربوطة بدعوته و قصص معاصريه من الحكام و الدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسميين بالمسيح - و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدم منهما محق غير مقتول، و المتأخر منهما مبطل مصلوب، و على هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب.

و الله أعلم.

و قوله «و إن الذين اختلفوا فيه» أي اختلفوا في عيسى أو في قتله «لفي شك منه» أي في جهل بالنسبة إلى أمره «ما لهم به من علم إلا اتباع الظن» و هو التخمين أو رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.

و قوله «و ما قتلوه يقينا» أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين، و ربما قيل: إن الضمير في قوله «و ما قتلوه» راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقينا.

و قتل العلم لغة تمحيضه و تخليصه من الشك و الريب، و ربما قيل: إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محضوا ظنهم و ما تثبتوا فيه، و هذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.

قوله تعالى: «بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما» و قد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران فقال: «إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلى»: آل عمران: 55 فذكر التوفي ثم الرفع.

و هذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادعوه من القتل و الصلب عليه فقد سلم من قتلهم و صلبهم، و ظاهر الآية أيضا أن الذي ادعي إصابة القتل و الصلب إياه، و هو عيسى (عليه السلام) بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه، و حفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه و روحه لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فإن الإضراب الواقع في قوله «بل رفعه الله إليه» لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل و الموت حتف الأنف.

فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به و أنجاه من أيديهم سواء كان توفي عند ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوف حتف الأنف و لا قتلا و صلبا بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.

و ليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح و يرفعه إليه و يحفظه، أو يحفظ الله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته و حياته بين قومه، و ما يحكيه من معجزات إبراهيم و موسى و صالح و غيرهم، فكل ذلك يجري مجرى واحدا يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم خرق العادة و تعطل قانون العلية العام، و قد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.

و بعد ذلك كله فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته (عليه السلام) و عدم توفيه بعد.

2- تفسير الآيتين من كتاب "تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل":

وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، تقول الآية: (وقولهم إِنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله...) ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة "رسول الله" استهزاء ونكاية، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصاً شبيهاً بعيسى المسيح(عليه السلام)، وإِلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم...)

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح(عليه السلام) كانوا - هم أنفسهم - في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن، تقول الآية: (وإِنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إِلا اتباع الظن...).

وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح(عليه السلام) حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابناً لله، ورفض البعض الآخر - كاليهود - كونه نبّياً، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.

وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح(عليه السلام) حيث قال البعض بأنّه قتل، وقال آخرون بأنّه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.

أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح(عليه السلام)، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخص غيره... ؟!

ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبداً، بل رفعه الله إِليه، والله هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء، تقول الآية: (وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً).


اُسطورة الصّليب؟

يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيح(عليه السلام) لم يقتل ولم يصلب، بل اشبته الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه، وهم لم يقتلوه أبداً!

أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ المسيح عليه السلام) قد صلب وقتل على هذه الصورة، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة "متى - لوقا - مرقس - يوحنا" وبصورة تفصيلية.

والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة، ومسألة الصلب أو قتل المسيح(عليه السلام) تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيح (عليه السلام) مجرّد نبي أرسل لهداية وإرشاد البشرية، بل يعتقدون بأنّه "ابن الله" من أركان الثالوث المقدس لديهم، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إِلى هذا العالم ليكون قرباناً يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر.

فيقولون: إِنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر، ولينقذ البشرية من العقاب، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإِيمان بهذا الموضوع.

ومن هذا المنطلق فهم - أحياناً - يدعون المسيحية بدين "الإِنقاذ" أو دين "الفداء" ويسمّون المسيح(عليه السلام) بـ "المنقذ" أو "المخلص" أو "الفادي".

واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعاراً لأنفسهم إِنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه.

كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيح(عليه السلام).

أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة، والسبب هو أنّ المسيح عيسى بن مريم(عليه السلام)، كان نبيّاً كسائر أنبياء الله أوّلا، ولم يكن هو الله ولا ابن الله، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.

وثانياً: إِنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد، فكل إِنسان يؤاخذ بجريرته وعمله، وإِنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإِيمان والعمل الصالح فقط.

وثالثاً: إِنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب، وتؤدي بالبشرية إِلى التلوث والهلاك.

وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيح(عليه السلام) مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة، لمنع المسيحيين من الإِيغال في هذا الاعتقاد الفاسد، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إِنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

رابعاً: هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الاعتقاد بصلب المسيح (عليه السلام) هي:

1 - المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر، والتي تشهد بصلب المسيح(عليه السلام) - كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصاره(عليه السلام) - وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.

كما نعرف أيضاً أنّ حواري المسيح (عليه السلام) قد هربوا حين هجم الأعداء عليه، والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر، وعلى هذا الأساس فإِنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيح (عليه السلام) من أفواه الناس الآخرين، ولم يكونوا حاضرين أثناء تنفيذ عملية الصلب، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إِلى تهيئة الأجواء المساعدة للاشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيح (عليه السلام)، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.

2 - إِنّ العامل الآخر الذي يجعل من الاشتباه بشخص آخر بدل المسيح (عليه السلام) أمراً محتملا هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيح (عليه السلام) والتي ذهبت إِلى بستان "جستيماني" هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أُمور عسكرية، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود ولغتهم وتقاليدهم، كما لم يميزوا بين حواري المسيح (عليه السلام) وبين المسيح نفسه.

3 - تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيح (عليه السلام) قد تمّ ليلا، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.

4 - يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد إختار الصمت أمام "بيلاطيس" الحاكم الرومي لبيت المقدس - آنذاك - ولم يتفوه إِلاّ بالقليل دفاعاً عن نفسه ويستبعد كثيراً أن يقع عيسى المسيح (عليه السلام) في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة.

ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر - كـ "يهوذا الأسخربوطي" الذي خان ووشى بعيسى المسيح (عليه السلام) وكان يشبهه كثيراً - قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلّادين بشيء.

نقرأ في الأناجيل أنّ "يهوذا الأسخربوطي" لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبداً، وأنّه - كما تقول هذه الأناجيل - قد قتل نفسه وانتحر.

5 - لقد بيّنا أنّ حواري المسيح(عليه السلام) - وكما ذكرت الأناجيل - قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيداً بين الجنود الرومان، ولم يكن أي من أصحابه قريباً منه، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريباً أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.

6 - ونقرأ في الأناجيل - أيضاً - أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه (وليس لربّه) لأنّه - بحسب قوله - قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه!

فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم، فلا يليق لمن يحمل هدفاً سامياً كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام، وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه، بل كان إِنساناً ضعيفاً وجباناً، وعاجزاً، ومثل هذا الإِنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق، لا يمكن أن يكون هذا الإِنسان هو المسيح (عليه السلام).

7 - لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل "برنابا" قضية صلب المسيح (عليه السلام) (وهذا الإِنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما أنّ بعضاً من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب وقد ذهب بعض الباحثين إِلى أبعد من هذا، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم "عيسى" أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسائة عام.

كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيح(عليه السلام).

Reply · Report Post